السبت، 3 نوفمبر 2012

التحرُّش الجنسي من منظور إسلامي




التحرش الجنسي

 

التحرُّش الجنسي من منظور إسلامي

 أ.د. عبد الفتاح إدريس  أستاذ العلوم الشرعية في جامعتي الأزهر والإمارات

من نتائج ضعف الوازع الديني في نفوس الكثيرين وانحسار أثره فيها ، ما فُوجئت به المجتمعات وخاصة الإسلامية بين الفينة والفينة من مظاهر ذلك وتداعياته ، والذي تظهر آثاره في انتشار مقاه (الإنترنت) ونواديه ، وانكباب الجنسين في هذه المقاهي والنوادي وغيرها علي اتصال أفراد كل جنس بأفراد الجنس الآخر عن طريق ما يُسمي (chattig) ، الذي يعدُّ نوعًا من التحرُّش الجنسي بين مَنْ يستخدمونه ، أو الدخول إلي المواقع التي تبث أو تعرض صورًا لا يحل مشاهدتها ، وغير ذلك مما أتاحته شبكة (الإنترنت) هذا فضلاً عمّا يفعله بعضهم من مطاردة النساء في مواضع تجمعهن ، كالأسواق أو معاهد العلم ومدارسه ، أو المشافي أو المصالح الحكومية أو الدواوين وغيرها ، والتي تصل في بعض الأحيان إلي حد إسماع الأنثى كلمات الغزل ، أو وصفها بأوصاف بغية لفت انتباها ، أو تضييق الطريق عليها ، سواء أكانت تسير مُترجلة أم راكبة بمفردها مع غيرها ، وإلقاء البطاقات التي تحمل أرقام الهواتف بداخل السيارة ، أو ملاحقتها بسيارته لإرباكها وإجبارها علي التوقف إن كانت تقود السيارة ، أو إكراها بذلك علي السير في الطريق الذي يريدها أن تسلكه ، ونحو ذلك ، وكل هذا حادث ويحدث ويتجدد حدوثه ، ونظرًا إلي انشغال الناس بأمورهم الخاصة وانكفائهم علي ذواتهم ، وعدم القيام بواجب الأمر بالمعروف وإنكار المنكر ، استفحل هذا المنكر بدرجات متفاوتة في المجتمعات الإسلامية ،

ولما كان الغالب هو تحرش الذكور بالإناث فإني أتناول في هذه العجالة أسباب ذلك ، وتداعياته ، وحكمه ، والسبيل إلي الإقلاع عنه .

المقصد الأول : حقيقة التحرُّش الجنسي

التحرُّش : هو التحكُّك والتعرُّض

والتحريش : هو الإغراء بين الناس

والحَرْش والتحريش : هو إغراء الإنسان والأسد ليقع بقرنه

وحَرّش بينهم : أفسد وأغري بعضهم بعضًا

والحرش والاحتراش تهييج الضبَّ في جحره ليُصاد ، يُقال : حرش الضبَّ يحرشه حرشًا صاده ، والاحتراش في الأصل هو الجمع والكسب والخداع  ومن ثم فإن تحرش أحد الجنسين بالآخر يُراد به إتِّباع الحيلة والخداع للإيقاع به ونيله .

المقصد الثاني : أسبابِ التحرُّش بالنساء

إن لتحرُّش الذكور بالإناث أو العكس أسبابًا عدة ، يمكن إجمالها فيما يلي :

1ـ غياب الوازع الديني أو انحساره من النفوس :

لا يخفي علي أحد انحسار الوازع الديني في نفوس الكثيرين ، ليحل محله اللهث وراء ماديات الحياة ، واستجلابها من وجوهها المشروعة وغير المشروعة ، بحسبانها في نظر بعضهم وسيلة إشباع الحاجات ، المتنامية بتنامي وجوهها الْمُعلَنْ عنها بوسائل الإعلام فضلاً عن استيراد ثقافة غير المسلمين وتبنِّيها ، سواء أكانت وافقت أحكام الشرع أم خالفته ، والانبهار بما وصلت إليه الدول المتقدمة من حضارة ورقي ، وترسم أخلاق أهلها ومبادئ سلوكهم والتأسِّي بهم فيها ، بحسبان ذلك وفق ما يري بعضهم هو سبب تقدمهم ورقيهم ، وقد جرَّ هذا وما يزال علي المسلمين الشر كله .

2ـ الفراغ :

لقد قيل :  إن الصحة والفراغ والجدَة    مَفْسَدة للمرء أي مُفْسِدَة

ولا يستغرب أن يكون الفراغ من الأسباب التي تدفع بعضهم إلي التحرش بالنساء ، فإن المرء إذا كان له من العمل ما يشغله جل وقته أو بعضه ، فإنه لن يجد متسعًا من الوقت لمجرد التفكير في التحرش بهنَ ، فضلاً عن ملاحقتهن في أماكن تجمعهن ، أو محاولة الاتصال بهنَ ، أو غير ذلك من وجوه التحرش ، وأما من لا تشغله هموم الحياة ولآلأؤها ، وتوافرت له سُبل الحياة الرغدة وخلَت حياته من المنغصات كما خلت مما يشغله ، فإنه لا يفتأ يتفكَّر فيما هو منجذب إليه بحسب طبيعته وجبلته ، وهو النساء تدفعه شهوته البهيمية ونزواته إلي محاولة التحاور معهنّ ، وتحقيق نوع من العلاقة بهنّ تملأ فراغ حياته وتسد جانبًا من الجوانب الخاوية فيها .

3ـ فقدان الاهتمامات النافعة :

إنّ فقدان الاهتمامات النافعة لكل ذي طاقة ، يترتب عليه إفراغها فيما لا يفيد ، ولذا فإن واجب المرء أن تكون لديه اهتمامات يملأ بها فراغه ، كالاطِّلاع علي ما ينفع ، أو ابتكار أو تطوير ما يعود عليه وعلي غيره بالنفع ، أو الاشتغال بعمل أو حرفة أو صنعة أو علم أو رياضة ، أو نحوها من الشواغل النافعة ، ولذا فإن انعدام هذه الشواغل أو الاهتمامات لدي البعض يكون باعثًا إلي تحويل طاقته إلي اللهو والعبث ونحوهما ، ومنها ذلك التحرُّش .

4ـ غياب دور الأسرة :

لا يخفي أن علي الأسرة دورًا فاعلاً في تأسيس الخلق القويم في نفوس المنتمين إليها ، إضافة إلي إحكام الرقابة عليهم ، لتبين ما إذا كانوا يمارسون هذا الخلق في الواقع أم أنهم يتنكبون عليه ، فلما انشغل القائمون علي أمر الأُسرة في اهتمامات أُخرى : كتدبير أسباب العيش لأفرادها أو أسباب الرفاهية لهم ، غاب دور الأسرة في توجيههم ومراقبة سلوكهم ، فكان من الطبيعي أن يمارس بعض أفرادها ما يشاءون من سلوك ، ولو كان فيه منافاة لوازع الدين والأخلاق ، وهم في مأمن من أن يحاسبهم أحد أو يعلم بممارساتهم .

5ـ عدم وجود منكر لهذا السلوك أو عدم احترامه :

إنّ طابع الحياة صبغ الناس بصبغة الانكفاء والاهتمام بشئونهم الخاصة ، من دون نظر أو اهتمام بسلوك الآخرين ، فالناس في زماننا لا يلوون علي شيء إلاّ إذا دعت إليه حاجتهم الخاصة ، وقد كان لهذا الانكفاء أثره في ضمور أو انعدام مساحة إنكار المنكر ، فلم يعد لدي الكثيرين من الوقت ما ينكرون فيه منكرًا ، لما يقتضيه ذلك من الاستفصال من فاعله عن مدي معرفته لحقيقة ما يفعل ، وبيان وجه المنكر في فعله أو قوله أو سلوكه ، ثم زجره عنه ، وهذا يقتضي المزيد من الوقت لإقناع فاعل المنكر بحرمة ما أقدم ويقدم عليه ، وزجره عن استمرائه أو الاستمرار فيه ، ولا يجد الكثيرين متسعًا من الوقت لذلك ، وربما لم يجدوا رد فعل لإنكارهم إلاّ الاستهزاء والسخرية من فاعله ، مما يجعل بعضهم يكف عن الإنكار ، أو يجد أنه لا جدوى من إقناعه بالكف عمّا هو فيه ، والنتيجة في الحالين واحدة ، وهي استمرار فعل المنكر .

6ـ البطالة المقنعة وغير المقنعة :

لا ينكر أحد انتشار البطالة بين قطاع كبير من الناس وإن كانت نسبته متفاوتة من بلد إلي آخر ، ومن إفرازات هذه البطالة التسكُّع في الطرقات وغيرها لقتل الوقت وعدم التفكير في مصاعب البحث عن العمل ، بل إن من الموظفين من يجد لديه وقت فراغ طويل ، قد يمتد من بداية الدوام إلي نهايته ، فيجتهد في ملء هذا الفراغ ، إما بالخروج من مكان العمل إلي الأسواق أو الشوارع ، أو نحو ذلك من أمور إلي أن ينتهي وقت الدوام ، وقد يكون التحرش بالنساء في مجال العمل أو خارجه هو أحد اهتماماته لتمضية الوقت ، والقضاء علي الملل .

7ـ الكبت العاطفي في محيط الأُسرة :

لا يغفل دور الكبت العاطفي في محيط الأُسرة في تفشي ظاهرة التحرش الجنسي ، فإن عاطفة الحب والحنو والرحمة والاهتمام والحميمية التي تربط بعض الأفراد ببعض ، إن لم تجد متنفسًا لها داخل الأسرة ، بحث من يعانيها عن متنفس لها خارج الأسرة ، لأن هذا هو البديل من وجهة نظره في تعويض ما يعانيه من تجاهل أفراد أسرته له ، ليجد هذا في صديق أو جار أو زميل دراسة أو عمل أو شخص عابر ، وربما بحث عن امرأة أملاً في أن يجد عندها ما افتقده في أُسرته .

8ـ عدم توجيه المال الذي يحوزه المرء الوجهة الصحيحة :

إنّ كثرة المال مفسدة كقلّته ، ولذا فإن الملاءة في حق بعض الناس شر محض ، إذا استغلت في غير ما يعود عليه بالنفع ، ولذا فقد يجد بعضهم أن كثرة المال معه لا حاجة إلي استغلالها فيما يشغل وقته ويعود عليه بالنفع ، ومن ثم فإن قناعته أن ينفقها في عبثه ولهوه وملذاته من دون تدبُّر لمغبَّة سلوكه .

9ـ عدم وجود الأنشطة الجماعية :

من أسباب التحرش الجنسي انعدام أو ندرة الأنشطة الجماعية ، التي تخلق الاهتمامات المشتركة وتمتص كثيرًا من وقت الفراغ ، كالاهتمام بنظافة البيئة وتخليصها من كل ضار ، أو الاشتراك في الرحلات الكشفية أو الصحية أو التثقيفية ، أو الارتياض الجماعي بنوع من الرياضات البدنية أو الذهنية أو نحوها .

10ـ انعدام أو ندرة البرامج الهادفة في وسائل الإعلام :

إنّ الغالب علي وسائل الإعلام وخاصة في دول العالم الثالث ، هو إلهاء الناس بقضايا عَبَثيّة مقصودة ومخطط لها سلفًا تخطيطًا دقيقًا ، لإشغالهم بها عن الفساد الذي باض وفرّخ في أرجاء بلادهم ، فوسائل الإعلام في هذه الدول علي اختلاف توجهاتها إلاّ ما نَدَر ، إنما تعني بما يضمن استمرار رسالتها وإن لم تقدم جديدًا يُثري الفكر أو يطوّر منه ، وكل هذا يصبُّ في الجانب السلبي لاهتمامات المخاطبين بها ، فتكون النتيجة انصرافهم عنها وانشغالهم بأمور قد لا يكون فيها نفع لهم .

11ـ الكثرة الكاثرة للفضائيات التي رسالتها علي إثارة الغرائز :

لا ينكر دور التلفاز كوسيلة إعلامية تقتحم علي الناس بيوتهم شاءوا أم أبوا ، وخطر هذا الجهاز وقوّة تأثيره في مشاهديه علي اختلاف مراحلهم العمرية وثقافتهم ، ومع ما ألمحنا إليه في السبب السابق نجد غلبة الفضائيات التي تثير برامجها الغرائز ، وكثرة تنوع ما تبثه منها ، ومع انعدام الرقابة الأسرية يرقب هذا البث من يريده من أفراد الأسرة ، فيتأثر به ، يُضاف إلي هذا أن بعض مذيعات ومُقدمات البرامج في فضائيات البلاد الإسلامية ، لا يلتزمن في مظهرهنّ بأحكام الإسلام ، إمّا نهجًا لهنّ ، أو لفرض التبرُّج عليهنّ كشرط لمزاولة العمل ، وهذا وذاك يلقي بآثاره علي المشاهد .

12ـ غياب الوعي الديني السوي في مخاطبة الناس :

في ظل الأوضاع المتردية في بلاد الإسلام أو التي يوجد فيها مسلمون ، نجد أن الخطاب الديني فرضت عليه رقابة صليبية صهيونية ، ولذا فلا عَجَب أن نجد صرامة الرقابة علي ما يُبَثُّ أو يُنشر من هذا الخطاب الآن ، وصار ما يصل إلي المشاهد أو القارئ أو السامع هزيلاً في مادته مشوشًا في محتواه ، يغلب عليه الاختزال والبتر حتى لا يؤذي أحدًا ممن وضع نهج هذا الخطاب ، وإذا كان الناشئة من الجنسين لا يجد بغيته من الثقافة الدينية في المحتوي الهزيل للكتب الدراسية ، فإنه لا يجد بغيته كذلك لدي الدُّعاة ألمكممي الأفواه ، أو مواقع (الإنترنت) التي ليس في مقدور كل أحد أن يُبحر في بحرها المتلاطم الأمواج ، نظرًا إلي تنوّع الفكر واختلاف التوجه ودس السم أحيانًا في العسل ، ولذا قد يضل الكثيرون في مواقعه فلا يهتدون .

13ـ الضغوط الاجتماعية في الأسرة أو المجتمع :

إن وضع القيود والعراقيل أمام راغبي الزواج من الجنسين له تداعياته علي الأسرة والمجتمع ، وإذا لم يجد أي منهما سبيلاً مشروعًا إلي التنفيس عن غريزته ضل طريقه ، ولم يأبه لقيم أو أخلاق مجتمعه ، فأفضي ذلك إلي مالا تحمد عقباه .

14ـ فقدان القدوة واضطراب معاييرها :

لا يغفل تبدُّل القُدوة في زماننا ، فقد كانت القدوة والمثال من قبل في أهل العلم والدين والخلق الكريم ، وصارت في زماننا لغيرهم ، ومَن صاروا موضع قُدوة الكثيرين يغلب عليهم عدم الالتزام بأحكام الإسلام ، ولذا فإننا نجد تهالك الناشئة علي ترسُّم خطوهم ، في اللباس والهيئة والسلوك والنهج والحرفة والشهرة .

15ـ تبذُّل بعض النساء وإغرائهنَّ مَن يتحرّش بهنَّ :

إنّ المرأة قد تدفع الرجل إلي التحرُّش بها ، إذا كان في هيئتها أو مشيتها أو كلامها ، أو الموضع الذي تسير به أو الوقت الذي تخرُج فيه ، ما يدفعه إلي ذلك ، ولم يحدث في الواقع أن تحرش أحد بامرأة ملتزمة بتعاليم الإسلام عند خروجها لقضاء حاجتها أو لمزاولة عمل مشروع ، وإنما كل حالات التحرش تقع لمن كانت غير ملتزمة بهذه التعاليم .

المقصد الثالث : التداعيات الأخلاقية والاجتماعية للتحرش

من التداعيات الأخلاقية والاجتماعية المترتبة علي التحرش الجنسي : الإضرار بأمن المجتمع ، وشيوع الفساد بين أفراده ، والوقوع في الفاحشة وما ينجم عنها من مفاسد ، وتلويث سمعة الأُسر ، وانتشار قيم جديدة غريبة عن المجتمع المسلم ، وتفشي الظواهر الإجرامية فيه ، من خطف النساء أو اغتصابهنّ أو إيذائهنّ أو النيل منهنّ أو من ذويهن ، وانتشار العنف ، وكثرة الحوادث المرورية ، وقطع الطريق علي الناس ، وعدم تمكُّن النساء من مزاولة أعمالهن أو الخروج لحوائجهن ، وزيادة حالات العنوسة والطلاق بسبب الشك في سلوك المرأة نتيجة لهذا التحرش .

 





 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق